مخاطر وسيناريوهات فوضى الانتقالي شرق اليمن.. الإمارات ترسم خرائط نفوذ جديدة جنوب الجزيرة العربية

ملفات | 14 ديسمبر 2025 21:12
مخاطر وسيناريوهات فوضى الانتقالي شرق اليمن.. الإمارات ترسم خرائط نفوذ جديدة جنوب الجزيرة العربية

 

الملخص التنفيذي

تُشكل السيطرة العسكرية الخاطفة للمجلس الانتقالي الجنوبي المدعوم من الإمارات على محافظتي حضرموت والمهرة "زلزالاً جيوسياسياً" يعيد تعريف منظومة الأمن الإقليمي في جنوب شبه الجزيرة العربية بشكل جذري، حيث أنهت هذه التحولات حقبة "التوازن الهش" وحولت مناطق العمق الاستراتيجي للسعودية والمجال الحيوي لسلطنة عُمان إلى خطوط تماس ملتهبة. إن نجاح المجلس الانتقالي في فرض سيطرته على شرق اليمن أو ما يوصف "اليمن الثالث" إلى جانب اليمن الشمالي واليمن الجنوبي لم يمنحه تفوقاً عسكرياً فحسب، بل مكنه من القبض على "صنبور" الاقتصاد اليمني عبر الاستحواذ على 80% من احتياطيات النفط والمنافذ الحدودية والبحرية، مما يضع الحكومة الشرعية أمام سيناريو الإفلاس التام ويفقدها آخر أوراق سيادتها، ويجعل من مشروع "الدولة الجنوبية" واقعاً مفروضاً على الأرض يتجاوز المرجعيات السياسية التقليدية.

تضع هذه الديناميكيات الجديدة دول الجوار الخليجي أمام تحديات أمنية وجودية غير مسبوقة؛ فالمملكة العربية السعودية تواجه انكشافاً خطيراً لخاصرتها الجنوبية عبر حدود "الربع الخالي" الطويلة، قد يهدد نفوذها القبلي التقليدي لصالح قوى منظمة مدعومة إماراتياً وحليفة لإسرائيل، بينما تجد سلطنة عُمان نفسها محاصرة جيوسياسياً بحزام نفوذ يمتد من سواحلها إلى حدودها الغربية، مما يثير مخاوفها التاريخية ويعزز احتمالات تحول المهرة إلى ساحة لحرب استنزاف بالوكالة.

هذا الفراغ الأمني والسياسي يخلق بيئة مثالية لعودة نشاط التنظيمات المتطرفة، ويمنح الحوثيين فرصة ذهبية لاستغلال الصراع البيني في معسكر خصومهم لتحقيق اختراقات ميدانية في المناطق المحررة بالذات مأرب وتعزيز شرعيتهم السياسية بدعوى حماية السيادة، مما يهدد بنقل الصراع إلى مستوى أكثر تعقيداً وخطورة.

استشرافاً للمستقبل (2025-2030)، يقف المشهد اليمني أمام مفترق طرق حاسم لا يحتمل سياسة "الانتظار"، حيث تتراوح السيناريوهات بين ترسيخ الانفصال كأمر واقع تتعايش معه المنطقة ببراغماتية، أو الانزلاق نحو "بلقنة" الجنوب إلى كانتونات متناحرة تعصف بها حروب الموارد والهوية، وعليه تخلص الورقة إلى أن الخيارات المتاحة لصناع القرار في الخليج باتت صفرية؛ فإما التدخل الحازم عبر استراتيجية "الاحتواء القسري" لإعادة التوازن العسكري والسياسي وفرض صيغة فيدرالية ضامنة، أو الاستسلام لواقع الفوضى الذي سيجعل من شرق اليمن مصدراً مزمناً لتهديد أمن الطاقة والملاحة والاستقرار الإقليمي لعقود قادمة.

 

 

المحتويات

المخلص التنفيذي................................ .............................................................

مقدمة................................ ................................ ...........................................

أولاً: السياق الجيوسياسي والتاريخي: جذور الصراع في "اليمن الثالث".................................

1-         الإرث التاريخي: من "المركزية القسرية" إلى "الهيمنة المناطقية"................................

2-         الأهمية الجيو-استراتيجية لشرق اليمن.............................................................

 

ثانياً: تشريح عملية "مستقبل واعد" - كيف حُسم الموقف في الشرق؟ ................................

1-         التكتيك العسكري: الحرب الخاطفة................................ ................................

2-         استراتيجية الاحتواء السعودية: دور قوات "درع الوطن".........................................

 

ثالثاً: إعادة تعريف المصالح الاستراتيجية لدول الخليج..................................................

1-         المأزق السعودي: فقدان العمق الاستراتيجي......................................................

2-         المعضلة العمانية: كابوس التطويق والتهديد الوجودي........................................

3-         الانتصار الاستراتيجي الإماراتي: اكتمال "عقد اللؤلؤ" والمشروع الإبراهيمي.....................

4-         الأدوار المكملة: قطر والكويت................................ ................................

 

رابعاً: الفواعل الأخرى والمخاطر النظامية: من المستفيد من الفوضى؟ ................................

1-         الحوثيون: الرابح الاستراتيجي................................ ........................................

2-         تفتيت "الشيفرة الاجتماعية"......................................................................

3-         مستقبل "الشرعية" اليمنية................................ .......................................

4-         تنظيم القاعدة: الانبعاث من "الثقوب السوداء"................................................

5-         شبكات التهريب واقتصاد الظل (أمراء الحرب) ................................................

 

خامساً: معركة الموارد والسيادة المالية - الاقتصاد كسلاح في الصراع................................

1-         ورقة "بترومسيلة": من يسيطر على "صنبور" النفط يسيطر على قرار اليمن................

2-         اقتصاد "الدولة الموازية": السيطرة على المنافذ والموانئ......................................

3-         الحكومة الشرعية: الإفلاس................................ ......................................

 

سادساً: السيناريوهات المستقبلية (2025-2030) ومصفوفة المخاطر................................

السيناريو الأول: التقسيم الوظيفي والاحتواء................................ ................................

السيناريو الثاني: "البلقنة" وحرب الاستنزاف بالوكالة......................................................

السيناريو الثالث: الانهيار الشامل واختراق "الحوثي".....................................................

السيناريو الرابع: "الاحتواء القسري" وترسيخ الأقلمة.................................................

السيناريو الخامس: "التدويل المنظم" وتسوية الإقليمين..................................................

خـاتـمـة: نهاية "الوضع الراهن" وكلفة الانتظار................................ ................................

 

جداول الإنفو جرافيك

انفوجرافيك :1 التحول الجذري في السيطرة الميدانية على المناطق الاستراتيجية شرق اليمن..........

انفوجرافيك2 : ميزان القوى العسكرية في الشرق اليمني (10 ديسمبر 2025)............................

انفوجرافيك 3: مصفوفة القوى والمصالح في شرق اليمن (10 ديسمبر 2025) ...........................

 

مقدمة

في ديسمبر/كانون الأول 2025 فرض المجلس الانتقالي الجنوبي (المدعوم من الإمارات) سيطرة خاطفة على محافظتي حضرموت والمهرة ضمن عملية أطلق عليها "مستقبل واعد"، لا تمثل هذه السيطرة مجرد تحول عسكري تكتيكي، بل هي بمثابة "زلزال جيوسياسي" يعيد رسم خرائط النفوذ بشكل جذري في جنوب شبه الجزيرة العربية، هذا التحول الدراماتيكي ينهي حقبة طويلة من "التوازن الهش" بين القوى الإقليمية والمحلية التي كانت تدير الصراع بصمت في هذا الإقليم الاستراتيجي، ويضع الأمن القومي لكل من المملكة العربية السعودية وسلطنة عمان أمام تحديات وجودية غير مسبوقة.

بهذا التحوّل غير المنضبط انهارت الترتيبات الأمنية التقليدية، وتحولت مناطق النفوذ التي كانت تُعتبر عمقاً استراتيجياً أو مناطق عازلة إلى خطوط تماس مباشرة ومصدر قلق داهم.

 هذا التحليل الموجه لصناع القرار في مجلس التعاون لدول الخليج العربي والحكومة اليمنية المعترف بها دولياً والمهتمين بالشأن اليمني، يقدم رؤية استراتيجية للتداعيات المترتبة على الواقع الميداني الجديد، وتقيّم مصفوفة المخاطر والفرص، وتداعياتها الخطيرة على استقرار الإقليم بأكمله.

 

أولاً: السياق الجيوسياسي والتاريخي: جذور الصراع في "اليمن الشرقي "

لفهم عمق الزلزال الحالي، يجب النظر إلى حضرموت والمهرة ليس كمجرد محافظات يمنية طرفية، بل كإقليم جيوسياسي متميز - يُطلق عليه أحياناً "اليمن الثالث" - يمتلك ديناميكيات تاريخية واجتماعية تختلف جذرياً عن ثنائية الشمال والجنوب التقليدية.

 

  1. الإرث التاريخي: من "المركزية القسرية" إلى "الهيمنة المناطقية"

تاريخياً، عانى الجنوب اليمني من إشكالية جوهرية في بناء الدولة، تمثلت في الفجوة بين طموحات السلطة المركزية في عدن وواقع التنوع الاجتماعي في الشرق. خلال حقبة "جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية" (1967-1990)، مارس الحزب الاشتراكي اليمني سياسة "مركزية شمولية" سعت لتفكيك البنى القبلية في حضرموت والمهرة تحت شعار "إلغاء القبيلة"، واستبدال الأسماء التاريخية بأرقام (المحافظة الخامسة والسادسة) لصهر الهويات المحلية في هوية وطنية قسرية. هذه السياسات، التي ترافقت مع تأميم الممتلكات ومصادرة الأراضي، خلفت جروحاً غائرة وشعوراً دائماً لدى الحضارم والمهريين بأنهم ضحايا لهيمنة "المركز" سواء كان في عدن أو صنعاء.

اليوم، ومع صعود المجلس الانتقالي الجنوبي، تتجدد المخاوف من إعادة إنتاج هذه المركزية ولكن بأدوات مختلفة. فبينما استند الحزب الاشتراكي إلى "الشرعية الثورية" والأيديولوجيا الماركسية، يستند المجلس الانتقالي إلى "التفويض الشعبي" والقوة العسكرية لفرض سيطرته بحكم الأمر الواقع، وكان الانتقالي قد فرض واقعا مشابها لما حصل في حضرموت[1] في كل من شبوة[2] وأرخبيل سقطرى[3] ، وهو ما يثير هواجس النخب الحضرمية والمهرية بأن كل ذلك قد يكون بداية عودة الهيمنة القديمة التي تقودها نخب "المثلث" (الضالع، يافع، لحج). هذا البعد التاريخي هو المحرك الخفي للمقاومة الاجتماعية -وإن كانت خافتة حالياً- لسيطرة الانتقالي، وهي التي قد تتحول إلى مقاومة مسلحة في المرحلة القادمة في حال استمر المجلس الانتقالي في سيطرته.

 

  1. الأهمية الجيو-استراتيجية لشرق اليمن

تكمن خطورة الأحداث الأخيرة في أهمية المسرح الجغرافي الذي تدور فيه.

  • حضرموت: تمثل "الخزنة الاقتصادية" لليمن، حيث تختزن حقول المسيلة (PetroMasila) ما يقارب 80% من احتياطيات النفط المؤكدة، فضلاً عن كونها تمثل العمق الجغرافي الأكبر (ثلث مساحة اليمن).
  • المهرة: تمثل "الرئة الجيوسياسية"، بامتلاكها أطول شريط ساحلي على بحر العرب (560 كم)، ومنافذ حدودية برية مع سلطنة عمان (شحن، صرفيت)، وميناء نشطون الذي يتميز بمياه عميقة تصلح للأغراض العسكرية والتجارية.[4]
  • موقع المحافظتين: يمثل هذا الإقليم البوابة الوحيدة لشبه الجزيرة العربية على المحيط الهندي المفتوح بعيداً عن اختناقات المضايق البحرية (هرمز وباب المندب)، مما يجعله الجائزة الكبرى في التنافس الإقليمي والدولي.[5]

 

 

انفوجرافيك (1) التحول الجذري في السيطرة الميدانية على المناطق الاستراتيجية في شرق اليمن

المنطقة الاستراتيجية

القوة المسيطرة سابقاً

القوة المسيطرة حالياً (حتى 10 ديسمبر 2025)

الأهمية الاستراتيجية

مدينة سيئون ووادي حضرموت

المنطقة العسكرية الأولى (الحكومة الشرعية)

قوات الدعم الأمني وقوات النخبة الحضرمية (المجلس الانتقالي)

تُمثل مركز الثقل الإداري والعسكري لمحافظة حضرموت.

حقول نفط بترومسيلة

حماية قبلية / قوات حكومية

المجلس الانتقالي الجنوبي

القلب الاقتصادي النابض لليمن (تحوي 80% من الاحتياطيات النفطية).

مدينة الغيضة والمنافذ

سلطة محلية / قوات حكومية وانتشار قبلي،

المجلس الانتقالي الجنوبي

البوابة الشرقية لليمن وخط الحدود المباشر مع سلطنة عمان.

مثلث العبر ومنفذ الوديعة

المنطقة العسكرية الأولى (الحكومة الشرعية)

قوات درع الوطن (مدعومة سعودياً)

شريان الحياة البري لليمن، وخط الدفاع الأخير عن محافظة مأرب.

 

 

 

 

 

 

 

 

ثانياً: تشريح عملية "مستقبل واعد" - كيف حُسم الموقف في الشرق؟

لفهم حجم التحول الاستراتيجي، لا بد من تفكيك الديناميكيات العملياتية التي أدت إلى هذا التغيير الجذري، وفهم سرعة الانهيار الذي فاجأ جميع المراقبين، هذا القسم يحلل كيف تمكن المجلس الانتقالي الجنوبي من حسم الموقف عسكرياً في شرق اليمن خلال ساعات معدودة، منهياً بذلك سنوات من حلم السيطرة وإعلان الانفصال[6].

في مطلع ديسمبر/أيلول 2025، انهار "الوضع القائم" (Status Quo) الذي حكم الشرق اليمني لسنوات، والذي كان يقوم على تقاسم نفوذ غير مكتوب: الساحل للإمارات (النخبة الحضرمية)، والوادي للسعودية والحكومة الشرعية (المنطقة العسكرية الأولى)، والمهرة لسلطنة عمان والقبائل.

 

  1. التكتيك العسكري: الحرب الخاطفة

تميزت عملية "المستقبل الواعد" التي أطلقها المجلس الانتقالي بالسرعة والمفاجأة، معتمدة على استراتيجية هجينة جمعت بين الضغط العسكري المباشر وشراء الولاءات.

كانت المنطقة العسكرية الأولى، المتمركزة في وادي حضرموت، توصف بأنها إحدى أكثر القوى تنظيماً وتسليحاً في هيكل الحكومة الشرعية، إلا أن سقوطها كان سريعاً ومفاجئاً، ففي الثاني من ديسمبر 2025، تقدمت وحدات من النخبة الحضرمية معززة بأكثر من 10 آلاف مقاتل قدموا من منطقة المثلث (الضالع، يافع، لحج) نحو مدينة سيئون، وتمكنت من السيطرة على المواقع الحيوية، بما في ذلك قصر الرئاسة ومطار سيئون الدولي ومقرات الألوية، بعد "مواجهات محدودة"، إن هذا الانهيار لم يكن مجرد فشل عسكري، بل هو نتيجة فراغ سياسي خلق أرضاً خصبة للاختراقات الاستخباراتية وعمليات "شراء الولاءات" الاستراتيجية، مما يبرهن على التحلل النهائي لإطار "الشرعية" الرسمي. [7]

في المهرة، كان السيناريو أكثر دراماتيكية. فبدلاً من القتال، تم "تسليم" المحافظة عبر اتفاق مع قيادة محور الغيضة (اللواء محسن علي مرصع) يقضي بانسحاب الجنود المنحدرين من المحافظات الشمالية وتسليم المواقع العسكرية لقوات الانتقالي والشرطة العسكرية المحلية الموالية له، هذا "الفتح السلمي" للمهرة، وسيطرة الانتقالي على ميناء نشطون ومنافذ الحدود مع عمان، شكّل صدمة للمراقبين الذين كانوا يراهنون على نفوذ القبائل المهرية الموالية لمسقط في صد أي هجوم، إن الأهمية الرمزية لرفع علم "دولة الجنوب" السابقة على ميناء نشطون ومنفذي شحن وصرفيت الحدوديين مع عمان، كانت رسالة سياسية حاسمة بأن المهرة قد حُسم أمرها لصالح مشروع الانفصال.

 

  1. استراتيجية الاحتواء السعودية: دور قوات "درع الوطن"[8]

في مواجهة هذا الاندفاع، لم تقف الرياض مكتوفة الأيدي تماماً، بل فعلت "الخطة ب". تدخلت السعودية لفرض سيطرة قوات "درع الوطن" (Nation Shield Forces[9]) - وهي تشكيلات سلفية انشأتها وسلحتها الرياض وتتبع رئيس مجلس القيادة الرئاسي رشاد العليمي - على منطقة "العبر" الاستراتيجية ومقر اللواء 23 ميكا.

لهذه الخطوة أهمية في الجغرافيا العسكرية؛ فمنطقة العبر تتحكم في عقدة المواصلات الدولية الرابطة بين حضرموت ومأرب، وبين اليمن ومنفذ الوديعة السعودي، ومن خلال السيطرة عليها، حققت الرياض هدفاً دفاعياً مزدوجاً: الأول هو قطع الطريق على تقدم قوات الانتقالي شمالاً نحو الحدود السعودية المباشرة أو غرباً باتجاه مأرب، والثاني هو تأمين المنفذ البري لضمان بقاء منفذ الوديعة، شريان الحياة الوحيد لليمن، تحت سيطرة قوة موالية للرياض بشكل مباشر.

في هضبة حضرموت، حاولت السعودية احتواء تحركات المجلس الانتقالي الجنوبي نحو أنابيب النفط من خلال طمأنة "حلف قبائل حضرموت" الذي يقوده الشيخ عمرو بن حبريش العليي والقوات التي يقودها، لكن مع  فارق كبير في التسليح والتنظيم لصالح قوات المجلس الانتقالي، التي رمت نصائح الرياض خلف ظهرها وسيطرت.

لذلك تدخلت السعودية لفرض وساطة عبر إرسال وفد إلى المكلا، في 3 ديسمبر/كانون الأول 2025، وقع "حلف قبائل حضرموت" والسلطة المحلية اتفاقاً لخفض التصعيد برعاية وفد سعودي برئاسة رئيس اللجنة الخاصة باليمن في مجلس الوزراء اللواء محمد القحطاني ينص الاتفاق على وقف التصعيد العسكري والإعلامي، وإعادة تموضع القوات بعيداً عن المنشآت النفطية، وتوحيد قيادة القوات المسؤولة عن الحماية، وما إن انسحبت القبائل في اليوم التالي سيطرت قوات المجلس الانتقالي على صنابير النفط، وقصفت قوات القبائل موقعة قتلى وجرحى.

حاولت السعودية نشر قوات من درع الوطن في المهرة بما في ذلك لحماية المنشآت الحكومية والتابعة للدولة، لكنها انسحبت لاحقاً إلى "العبر"، وتزامن ذلك مع دفع المجلس الانتقالي بتعزيزات عسكرية كبيرة من منطقة المثلث الجنوبي، ولم يصدر موقف من القبائل الموالية لسلطنة عمان.

أظهرت الأحداث هشاشة الزعامات القبلية التقليدية، فقد فشل "حلف قبائل حضرموت" في حماية حقول النفط أو منع تقدم قوات الانتقالي، رغم الدعم السعودي والغطاء السياسي.

هذا الفشل يؤكد أن الديناميكيات الاجتماعية في اليمن قد تغيرت، وأن القوة العسكرية المنظمة والمال السياسي باتت أكثر تأثيراً من الولاءات المشيخية التقليدية، مما سيفرض على السعودية إعادة التقييم.

أما "التحوّل السلمي" في محافظة المهرة فيطرح تساؤلات عميقة حول فعالية شبكات الولاء القبلية التي بنتها سلطنة عمان والسعودية على مدى عقود. هل فشلت هذه الشبكات؟ أم أن القوة الناعمة والمال السياسي الإماراتي كانا أكثر تأثيراً؟ أم أن القبائل المهرية آثرت تجنب الصدام العسكري مع قوة صاعدة (الانتقالي) في ظل غياب غطاء حقيقي من الحكومة الشرعية المتآكلة؟

هذا التحول الميداني الدراماتيكي لم يغير الخارطة العسكرية فحسب، بل فرض إعادة تعريف جذري للمصالح الاستراتيجية للقوى الخليجية الفاعلة.

انفوجرافيك (2) ميزان القوى العسكرية في الشرق اليمني (10 ديسمبر 2025)

القوة العسكرية

التبعية السياسية

مناطق السيطرة الجديدة

الحالة والقدرات

النخبة الحضرمية / القوات الجنوبية (الضالع، يافع)

المجلس الانتقالي (الإمارات)

ساحل حضرموت، وادي حضرموت (سيئون)، المهرة (الغيضة، نشطون)، ومعظم المحافظات الجنوبية.

سيطرة تامة، تسليح حديث، دعم جوي ولوجستي إماراتي، معنويات عالية.

قوات درع الوطن (NSF)

رئيس مجلس القيادة

دعم (السعودية)

منطقة العبر، منفذ الوديعة، جيوب حدودية.

قوة "صد" واحتواء، عقيدة سلفية منضبطة، تسليح سعودي، تمثل خط الدفاع الأخير للرياض.

المنطقة العسكرية الأولى

وزارة الدفاع (الحكومة المعترف بها دولياً)

متفككة / مندمجة جزئياً،

فقدت فاعليتها كقوة منظمة، تم تسريح العناصر الشمالية أو انسحابهم لمأرب، ومعظم مخازنها نُهبت وبيعت الأسلحة في الشوارع.

المجاميع القبلية (حلف قبائل حضرموت)

مستقل
دعم (السعودية-جزئياً)

الهضبة النفطية (جزئياً)

فقدت السيطرة على حقول النفط لصالح الانتقالي، قدرتها تقتصر على التعطيل وقطع الطرق.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

ثالثا: إعادة تعريف المصالح الاستراتيجية لدول الخليج

تعتبر الأحداث التكتيكية لشهر ديسمبر/كانون الأول 2025 ثانوية مقارنة بعواقبها الاستراتيجية. إذ تخلق تحولاً لا رجعة فيه في الحسابات الأمنية للقوى الرئيسية في الخليج، وهو تحوّل يجعل الاستراتيجيات السابقة بالية. لقد فرض الواقع الجديد على كل دولة إعادة حساباتها الاستراتيجية بالكامل.

  1. المأزق السعودي: تهديد العمق الاستراتيجي

تشترك السعودية بحدود برية طويلة جداً مع اليمن في محافظتي حضرموت والمهرة عبر صحراء الربع الخالي. سابقاً، كانت هذه الحدود تدار عبر شبكات من التفاهمات القبلية وقوات حرس حدود موالية للحكومة الشرعية وتدين بالولاء (والرواتب) للرياض. لذلك تجد الرياض نفسها في موقف بالغ الحساسية، حيث ترى حليفها في التحالف (الإمارات) يدعم طرفاً يقوض الشرعية التي تقود السعودية تحالفاً لدعمها، وبذلك تواجه المملكة تهديداً جديداً؛ فقد انكشفت حدودها الجنوبية الطويلة مع حضرموت والمهرة أمام قوة مسلحة منظمة تحمل أجندة انفصالية، تهدد العمق الاستراتيجي لها.

  • انكشاف الخاصرة الرخوة: وجود قوات ترفع شعارات استعادة "دولة الجنوب" وتتبنى عقيدة سياسية قد تكون صدامية على المدى البعيد، يجعل الحدود السعودية مكشوفة. التخوف ليس فقط من العمليات العسكرية النظامية، بل من تحول هذه المناطق الشاسعة إلى "مناطق رمادية" يتم الدفع إليها بعصابات تهريب المخدرات والسلاح، والجماعات الإرهابية لتتحول إلى " حدود جهنم"[10].
  • فقدان العمق: حضرموت تمثل "عمقاً استراتيجياً" واجتماعياً للمملكة، حيث يحمل الكثير من الحضارم الجنسية السعودية ويرتبطون بعلاقات اجتماعية وتجارية معها. تحول الولاء السياسي في حضرموت نحو المشروع الجنوبي (الإماراتي) يعني فقدان الرياض لنفوذها الناعم الذي بنته على مدار عقود.

 

  • تضرر هيبة "الضامن": هزيمة حلفاء الرياض التقليديين (المنطقة العسكرية الأولى، حلف قبائل حضرموت) يحقق أحد أهم أهداف خصوم السعودية في تعزيز الشعور بفقدان الثقة فيها وانعدام مصداقية ضماناتها كما في اتفاق الرياض ويقوض موقف "الشرعية" التي تدعمها، مما قد يشجع أطرافاً جديدة على التمرد.

في المقابل، قد ترى الرياض في هذا الوضع فرصة تكتيكية لفرض قوات "درع الوطن" في حضرموت والمهرة، ووقف أي محاولات للمجلس الانتقالي الجنوبي للاستمرار، وتعتبر قوة "درع الوطن" الأكثر ولاءً وانضباطاً كبديل استراتيجي لتأمين مصالحها المباشرة.

 

  1. المعضلة العمانية: كابوس التطويق والتهديد الوجودي

إذا كانت خسارة السعودية استراتيجية، فإن خسارة سلطنة عمان يمكن وصفها بـ "الوجودية". تجد مسقط نفسها، ولأول مرة في تاريخها الحديث، محاطة بحزام نفوذ إماراتي يمتد من حدودها الشمالية، وعبر سواحل اليمن، وصولاً إلى حدودها الغربية مع المهرة.

  • التطويق الجيوسياسي: تنظر النخبة السياسية والأمنية في مسقط بريبة شديدة للتحركات الإماراتية في المهرة، تعتبر عمان أن السيطرة على منافذ "شحن" و"صرفيت" ورفع أعلام الدولة الجنوبية السابقة عليها ليس مجرد إجراء سيادي يمني، بل رسالة ضغط موجهة للداخل العماني[11].
  • إحياء الأشباح التاريخية: يحمل رفع علم دولة الجنوب السابقة على المنافذ الحدودية دلالات تاريخية مرعبة لمسقط، حيث يستدعي ذكريات "ثورة ظفار" في الستينيات والسبعينيات، والتي دعمتها تلك الدولة، وجود نظام سياسي في عدن اليوم (الانتقالي) يتبنى خطاباً قومياً جنوبياً ويسيطر على الحدود المتاخمة لظفار، يثير مخاوف حقيقية من إمكانية استخدام ورقة "الامتداد القبلي" لزعزعة استقرار السلطنة.
  • سقوط المنطقة العازلة: لطالما اعتبرت عمان محافظة المهرة "منطقة عازلة" يجب أن تظل محايدة، سقوط هذه المنطقة بيد خصوم مسقط الإقليميين يعني انتقال التهديد إلى عتبة الدار مباشرة، وينهي سياسة "الحياد الإيجابي" التي تدعي عمان أنها تقوم به للعب دور الوسيط في الملف اليمني.[12]
  • فقدان النفوذ الناعم: يفقد هذا التحول أوراق مسقط الرئيسية المتمثلة في النفوذ القبلي تحت ما يسمى "لجنة الاعتصام السلمي" التي يقودها علي سالم الحريزي الموالي للحوثيين، ويضع حلفاءها المحليين في موقف صعب بين المواجهة أو الانزواء، مما يقلص قدرتها على التأثير في الأحداث، مع ذلك يمكن أن تتحول هذه الورقة إلى فاعل خشن، إذا ما دعا "الحريزي" لتحويل المحافظة إلى ساحة حرب عصابات ضد قوات المجلس الانتقالي[13].

 

  1. الانتصار الاستراتيجي الإماراتي: اكتمال "عقد اللؤلؤ" وفرض الأمر الواقع والمشروع الإبراهيمي

في مقابل القلق السعودي والعماني، يمثل المشهد الحالي تتويجاً لنجاح الاستراتيجية الإماراتية في اليمن، والتي يمكن وصفها باستراتيجية "النفوذ البحري والسيطرة على الموانئ"، أو "عقد اللؤلؤ"/ "سلسلة الموانئ"[14]. حيث اكتمل الآن طوق السيطرة غير المباشر على الممرات المائية والمواقع الاستراتيجية الممتدة من ميناء المخا في باب المندب غرباً حتى ميناء نشطون شرقاً.

  • السيطرة على الهلال الجنوبي لشبه الجزيرة العربية: بسيطرة حلفاء الإمارات على ميناء نشطون في المهرة، تكون الإمارات قد أكملت سيطرتها غير المباشرة على سلسلة الموانئ والمواقع الاستراتيجية الممتدة من أرخبيل سقطرى في المحيط الهندي، مروراً بميناء عدن والمكلا والضبة، وصولاً إلى المخا وباب المندب في الغرب.
    تمنح هذه السيطرة أبوظبي نفوذاً حاسماً على خطوط الملاحة الدولية والطاقة في بحر العرب وخليج عدن، وتعزز تكامل هذه الموانئ مع موانئها التجارية في جبل علي والفجيرة، أو على الأقل منع استخدامها كمراكز منافسة خارج سيطرتها.
  • هندسة "الدولة الجنوبية": تعمل الإمارات بوضوح على بناء مؤسسات دولة أمر واقع في الجنوب، تكون تابعة لها، ويجعل من قراراتها بما في ذلك إعلان الانفصال تحت يدها ولا يستطيع المجلس الانتقالي تجنبها، إذ أن السيطرة على موارد النفط في حضرموت وتوحيد الجغرافيا الجنوبية عسكرياً هي خطوات ضرورية لجعل هذه الدولة "قابلة للحياة" اقتصادياً وسياسياً، مما يمنح الانتقالي ورقة تفاوضية قوية في أي تسوية نهائية مع الحوثيين، ويجعل من أبوظبي "حارس البوابة" الذي لا يمكن تجاوزه في صناعة سياسات الأمن القومي لشبه الجزيرة العربية، مع العزلة التي تعانيها في السنوات الأخيرة في محيطها الخليجي والعربي.
  • حليف للمشروع الإبراهيمي (إسرائيل) جنوب السعودية:

ينظر إلى المجلس الانتقالي كجزء من الاستراتيجية الإماراتية في المنطقة، بالذات تلك الاستراتيجية التي تقودها أبوظبي للتطبيع مع إسرائيل في إطار " الإتفاق الإبراهيمي"[15]، هذا الاتفاق الذي رفضته السعودية قبل إعلان الدولة الفلسطينية، سيطوق السعودية من الجنوب في حال تمكن المجلس الانتقالي من الانفصال وإعلان دولة حليفة لإسرائيل، كما تؤكد تصريحات قياداته.[16] 

وبينما تتصارع القوى الخليجية مع هذا الواقع الجديد، يراقب فاعلون آخرون المشهد، يستعدون لاستغلال الفوضى لتحقيق مكاسب خاصة بهم.

 

  1.  الأدوار المكملة: قطر والكويت

بعيداً عن الصراع المحتدم بين القوى الثلاث الرئيسية، تلعب أطراف أخرى أدواراً مكملة ولكنها مؤثرة.

  • قطر و"القوة الناعمة الاستراتيجية": تستخدم الدوحة المساعدات الإنسانية والإعلام كأداة نفوذ سياسي يتقاطع مع الموقف العُماني المناهض للهيمنة الإماراتية، توفر وسائل الإعلام القطرية منصة للأصوات المعارضة، بينما تهدف المساعدات الإنسانية لتعزيز صمود المجتمعات المحلية الرافضة للمشروع الإماراتي.
  • الكويت و"الحياد الإيجابي": يتركز الدور الكويتي على الجانب التنموي والإنساني البحت، بعيداً عن الاستقطاب السياسي، وتنفذ مشاريع حيوية في قطاعات الكهرباء والإيواء والصحة، مما أكسبها احتراماً وتقديراً محلياً لعدم انخراطها في الصراع.

 

رابعاً: الفواعل الأخرى والمخاطر النظامية: من المستفيد من الفوضى؟

خلف ضجيج الصراع المباشر على النفوذ، يخلق الفراغ الأمني بيئة خصبة لـ 'فاعلين انتهازيين' يحولون الفوضى إلى مكاسب استراتيجية؛ بدءاً من الحوثيين المتربصين، ووصولاً إلى شبكات اقتصاد الظل التي تقتات على تفتيت الدولة وتمزيق نسيجها الاجتماعي.

 

  1. الحوثيون: الرابح الاستراتيجي

يراقب الحوثيون الصراع الدائر في المعسكر المناهض لهم بارتياح استراتيجي، فبينما ينشغل المجلس الانتقالي بالسيطرة على الجغرافيا والثروة في الجنوب، وتنشغل السعودية بمحاولة احتواء نفوذها عبر "درع الوطن"، يراقب الحوثيون خصومهم وهم يستهلكون قدراتهم في صراع صفري.

كما أن هذا الانقسام والتصارع يخدم سرديتهم بأن التحالف جاء لتقسيم اليمن ونهب ثرواته، ويضعف أي جبهة موحدة قد تتشكل ضدهم.

 إن مشاهد سيطرة المجلس الانتقالي على حقول النفط في حضرموت، وحالات النهب والسلب في مديريات الوادي، تقدم للحوثيين دليلاً مرئياً وملموساً يؤكد صحة دعايتهم السياسية أمام جمهورهم الداخلي، مما يعزز تماسك جبهتهم الداخلية ويمنحهم شرعية "مقاومة الاحتلال والتقسيم"[17]. في الوقت ذاته سيستغل الحوثيون هذا الضعف لتقديم أنفسهم للمجتمع الدولي كطرف "أكثر استقراراً" وتماسكاً.

 إن سيطرة حلفاء الإمارات على المهرة، تشكل تهديدًا وجوديًا لسلطنة عُمان، وهو ما قد يدفع مسقط للتخلي عن بعض تحفظاتها وتعزيز تفاهماتها مع الحوثيين لاستخدامهم كورقة ضغط، لتمرير سياسات تحمي أمنها القومي في المحافظة المجاورة لها.

والأهم من ذلك، يظل تهديد الحوثيين باستهداف أي محاولة لتصدير النفط لا تضمن لهم حصة من العائدات قائماً ومثبتاً (كما حدث في ميناء الضبة) منذ 2022م، هذا يجعل سيطرة المجلس الانتقالي على حقول النفط ورقة سياسية للتفاوض مع الرياض أكثر منها ورقة اقتصادية قابلة للصرف في المدى المنظور.

 

  1. تفتيت "الشيفرة الاجتماعية"

لعل الخطر الأكبر الذي لا يملك "مستفيداً" حقيقياً ولكنه يهدد الجميع هو التدمير الممنهج للنسيج الاجتماعي، فقد أدى الصراع إلى تحويل الولاء القبلي إلى سلعة تُشترى وتباع، حيث تمكن المجلس الانتقالي من دعم قبائل في حضرموت والمهرة ضد آخرين يملكون الأغلبية المجتمعية في سياسة فرق تسد، مما ضرب الأعراف القبلية التي كانت تحفظ السلم الأهلي تاريخياً،

كما أن إعادة الانتقالي إنتاج سياسات "المركزية" التي مارسها الحزب الاشتراكي سابقاً، مما ولد ردة فعل مناطقية (حضرمية/مهرية) ترفض "وصاية الضالع ويافع"، مهدداً بتحويل الصراع السياسي إلى صراع هوياتي ومناطقي طويل الأمد، إذ يعيد المجلس الانتقالي الجنوبي إنتاج "الخطيئة الأصلية" للحزب الاشتراكي، مما ينكئ جراحاً تاريخية لم تندمل، أشار الشيخ عمرو بن حبريش رئيس حلف قبائل حضرموت إلى أن السيطرة على مناطق هضبة حضرموت تم بسبب العملاء والخونة.[18] وكان الشيخ القبلي قد اعتبر دخول قوات الانتقالي القادمة من الضالع ويافع "غزواً قبلياً"[19].

يمتد هذا الصراع الهوياتي إلى محافظتي شبوة وأبين المجاورتين وحتى العاصمة عدن باعتباره عودة "للطغمة"، إذ ينظرون إلى قوات الانتقالي (التي تنحدر قيادتها وأفرادها غالباً من الضالع ويافع) ليس كجيش وطني، بل كقوة مناطقية تعيد فرض هيمنة "المركز" على "الأطراف". هذا يعيد للأذهان ذاكرة الصراعات الدامية في 1986 (الزمرة والطغمة) وممارسات الحزب الاشتراكي الذي ألغى أسماء المحافظات واستبدلها بأرقام (المحافظة الخامسة والسادسة) لطمس الهوية المحلية.

ويرى الحضارم أنفسهم "نداً" وليسوا "تابعاً" لعدن أو صنعاء. محاولة الانتقالي اختزال حضرموت في مشروع "الجنوب العربي" دون منحها حكماً ذاتياً حقيقياً دفع النخب الحضرمية للتمترس خلف خيار "إقليم حضرموت المستقل"، مما يهدد بـ "بلقنة" الجنوب[20]وتحويله إلى كانتونات متناحرة بدلاً من "دولة جنوبية موحدة" كما ترسمها أحلام المجلس الانتقالي.

  1. مستقبل "الشرعية" اليمنية

بسقوط المنطقة العسكرية الأولى في سيئون، فقدت الحكومة الشرعية آخر معاقل نفوذها "الوحدوية" في الجنوب، مما يعني أن "الشرعية" لم تعد تملك جيشاً وطنياً موحداً، بل أصبحت مظلة لجيوش مناطقية: "النخبة" والدعم الأمني في الساحل والوادي، و"درع الوطن" في الحدود.

هذا الواقع يفرض مستقبلاً يتسم بـ "الفيدرالية الميليشياوية" حيث يسيطر كل فصيل على رقعته الجغرافية تحت اسم الشرعية شكلياً فقط، ما يعني إما فرض أقاليم لاحقاً أو إعلان "الانتقالي" لدولته الجنوبية مع سيطرته على المحافظات الثمان التي كانت تشكل جمهورية اليمن الديمقراطية قبل 1990م.

كما تكشف الأحداث عن العجز والشلل الكامل الذي أصاب مجلس القيادة الرئاسي، والذي بات هيكلاً بلا أرض فعلية يسيطر عليها، وهو ما يعني إما تفكيكه أو البقاء على الوضع الحالي وهو ما سيؤدي إلى اضطرار القوى الإقليمية والمجتمع الدولي عاجلاً أم آجلاً إلى التعامل مع واقع "الدولتين" أو "الأقاليم" كأمر واقع، مما يتطلب استراتيجية خروج جديدة تتجاوز المرجعيات التقليدية.

أدى انهيار "المنطقة العسكرية الأولى" في وادي حضرموت، إلى خلق فراغ أمني خطير في الجبهة الشرقية لمحافظة مأرب، هذا الانهيار قد يكشف ظهر القوات الحكومية في مأرب والجوف، ويؤثر على قدرات الجيش التي تستند على الدعم والمساندة من الخلف ويجعل المديريات الواقعة تحت سيطرة الحكومة الشرعية بين فكي كماشة الحوثيين والمجلس الانتقالي. وهو ما يمنح الحوثيين فرصاً عسكرية لتحقيق اختراقات ميدانية في مناطق التماس الصحراوية، أو على الأقل يضمن لهم تحييد خطر عسكري كبير كان يهدد مناطق سيطرتهم من جهة الشرق.

 

  1. تنظيم القاعدة: الانبعاث من "الثقوب السوداء"

يخلق التركيز المفرط على الصراع بين المجلس الانتقالي والقوات الحكومية/ القبائل فراغاً أمنياً خطيراً تستفيد منه التنظيمات المتطرفة، إذ يمنح الاقتتال الداخلي تنظيم القاعدة في جزيرة العرب (AQAP) فرصة لإعادة تجميع صفوفه في المناطق الصحراوية والوديان النائية بحضرموت وشبوة، مستغلاً الفوضى كغطاء للتحرك.

كما أن تحول المهرة ووادي حضرموت إلى ساحات لحرب عصابات وتصفيات قد يحولها إلى بؤرة للإرهاب، مما يهدد أمن المنطقة والمصالح الدولية.

 

  1. شبكات التهريب واقتصاد الظل (أمراء الحرب)

سيؤدي غياب سلطة الدولة المركزية وسيطرة الميليشيات إلى ازدهار "اقتصاد الحرب"، حيث تتحول الحدود الطويلة مع السعودية وعمان والمناطق الصحراوية (الربع الخالي) إلى مناطق رمادية تزدهر فيها عمليات تهريب السلاح، والمخدرات، والبضائع، حيث تستفيد شبكات التهريب من تعدد الولاءات وغياب الرقابة الصارمة.

كما سيعتمد الفاعلون الجدد (الانتقالي والميليشيات القبلية) على فرض جبايات ورسوم جمركية غير قانونية على المنافذ (شحن وصرفيت) والموانئ والمطارات لتمويل عملياتهم ونفقاتهم، مما يحول الاقتصاد الوطني إلى "اقتصاد كانتونات"، ومع غياب الحكومة اليمنية وعودتها للمنفى ستتوقف الرواتب ما لم تعتمد على قروض من السعودية.

 

 

 

 

انفو جرافيك (3) مصفوفة القوى والمصالح في شرق اليمن (10 ديسمبر 2025)

الفاعل

الأهداف الاستراتيجية

الأدوات

نقاط القوة

نقاط الضعف

المجلس الانتقالي (الإمارات)

انفصال جنوب اليمن وإعلان "دولة الجنوب"، السيطرة على الثروة

النخبة الحضرمية، القوات الجنوبية (الضالع/ يافع)، الدعم الإماراتي

السيطرة الميدانية، التنظيم العسكري

الأزمة الاقتصادية، المعارضة القبلية

 درع الوطن

(السعودية)

تأمين الحدود، منع قيام كيان معادي، والوصول إلى بحر العرب

قوات درع الوطن، المال، الغطاء الشرعي

الشرعية الدولية والمحلية القبلية، القوة المالية، العمق الجغرافي

المخاوف من التورط المباشر، اهتزاز الثقة مع بعض  الحلفاء المحليين، بسبب أخطاء الإمارات في التحالف العربي

قبائل في المهرة

(سلطنة عمان)

حماية أمن ظفار، منع النفوذ الأجنبي في المهرة

لجنة الاعتصام (علي الحريزي)، العلاقات القبلية

النفوذ الناعم، الموقع الجغرافي، العلاقة مع الحوثي

غياب الذراع العسكري النظامي، الضغط الإقليمي، التورط بالتقارب مع الحوثي

الحكومة الشرعية

(السعودية)

الحفاظ على الوحدة (أو الفيدرالية)، بقاء المركز القانوني للدولة

ما تبقى من الجيش، الاعتراف الدولي

الغطاء القانوني الدولي

فقدان الأرض، الفساد، الانقسام الداخلي، المصالح المتضاربة.

الحوثيون

(إيران)

استنزاف التحالف، الحصول على حصة من النفط

الطائرات المسيرة، الصواريخ، التهديد البحري

القدرة على التعطيل، التماسك الداخلي

العزلة الدولية، الأزمة الاقتصادية في مناطقهم، الهشاشة والضعف بعد استهداف قيادات مهمة في الحركة

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

خامساً: معركة الموارد والسيادة المالية - الاقتصاد كسلاح في الصراع

لا تكتمل السيطرة على الأرض إلا بالسيطرة على مواردها الاقتصادية، إذ يسعى المجلس الانتقالي إلى التحكم في النفط والمنافذ الحدودية للحصول على أدوات ضغط اقتصادية فتاكة، قادرة على خنق خصومه وتأسيس مقومات الدولة التي ينشدها.

 

  1. ورقة "بترومسيلة": من يسيطر على النفط يسيطر على قرار اليمن[21]

تكمن الجائزة الاقتصادية الكبرى في حقول نفط "بترومسيلة" بحضرموت، والتي تمثل أكثر من 80% من احتياطيات اليمن النفطية المؤكدة. إن سيطرة المجلس الانتقالي على هذه الحقول تمنحه القدرة على التحكم في "صنبور" الاقتصاد اليمني، مما يمكنه من خنق الحكومة الشرعية مالياً، أو ابتزازها للحصول على حصة من العائدات لتمويل إدارته الذاتية.

ومع ذلك، تظل هذه الورقة محفوفة بالمخاطر؛ فالتهديد الحوثي باستهداف منشآت التصدير، كما حدث سابقاً بهجمات على ميناء الضبة النفطي، يجعلها ورقة ضغط سياسية أكثر منها ورقة اقتصادية فورية.

 

  1. اقتصاد "الدولة الموازية": السيطرة على المنافذ والموانئ

تكتمل السيطرة الاقتصادية بالتحكم في حركة التجارة والجمارك. إن سيطرة الانتقالي على منفذي "شحن" و"صرفيت" مع سلطنة عمان، بالإضافة إلى ميناءي "نشطون" و"المكلا" الاستراتيجيين، والمطارات الجنوبية الوحيدة التي تعمل في اليمن، يمنحه مصدراً ضخماً للإيرادات.

إن تحويل عائدات الجمارك والتجارة، التي تقدر بملايين الدولارات شهرياً، إلى خزانة المجلس الانتقالي سيعزز من قدرته على بناء مؤسسات دولة موازية، ودفع رواتب قواته بانتظام، وتسريع وتيرة الانفصال الفعلي.

كما أن أي صراع مسلح حول الموارد، أو توقف لإنتاج النفط والغاز، سيفاقم الأزمة الإنسانية بشكل كارثي، وسيؤدي إلى انهيار الخدمات الأساسية مثل الكهرباء التي تعتمد عليها مدن الوادي، مما قد يولد سخطاً شعبياً عارماً.

كما أن التحكم في المنافذ يعني القدرة على مراقبة (أو تسهيل) تدفق البضائع والأسلحة، وهي ورقة كانت واشنطن والرياض تتهمان "أطرافاً في المهرة" باستخدامها لتهريب السلاح للحوثيين. وخلال العامين الماضيين كثفت القوات المدعومة من السعودية والقوات الحكومية رقابتها لمنع تهريب الأسلحة إلى الحوثيين، ومع انسحابها وسيطرة الانتقالي الذي يملك بداخله "أمراء حرب" اتهموا مراراً بالمساعدة في تهريب الأسلحة إلى الحوثيين يخفف ضغط الحظر البحري والعقوبات الأمريكية على الجماعة بمرورها براً، خاصة مع احتمالية بحث القبائل المناهضة للانتقالي عن مصادر تمويل ودعم مسلح يمكن أن يلجئهم إلى الحوثيين.

في ضوء هذه الحقائق الميدانية والجيوسياسية والاقتصادية الجديدة، تتشكل مسارات مستقبلية متباينة تحمل في طياتها فرصاً ومخاطر جسيمة.

 

  1. الحكومة الشرعية: الإفلاس

تواجه الحكومة الشرعية سيناريو الإفلاس التام. بوقوع حقول "بترومسيلة" (التي تنتج 80% من نفط اليمن) ومنافذ المهرة الجمركية في قبضة المجلس الانتقالي، فقدت الحكومة شريان حياتها المالي المستقل، وستتحول الحكومة إلى "متسول" ينتظر تحويلات المجلس الانتقالي (الذي يمتلك الآن "صنبور" الموارد) أو الاعتماد الكلي على الودائع السعودية لدفع الرواتب. هذا الوضع يسحب من الحكومة أي قدرة على اتخاذ قرار سياسي مستقل.

يمتلك الانتقالي الآن القدرة على فرض شروطه على مجلس القيادة الرئاسي والتحالف؛ إما الحصول على حصة مباشرة من الإيرادات يتم توريدها لحسابات مستقلة في عدن لتمويل إدارته الذاتية وقواته، هذا الوضع يبخر إجراءات البنك المركزي اليمني لضبط الإيرادات والتي كانت بالفعل تثير غضب قيادات المجلس الانتقالي[22].

 

سادساً: السيناريوهات المستقبلية (2025-2030) ومصفوفة المخاطر

إن تقديم رؤية استشرافية للمسارات المحتملة في ظل عدم اتضاح نهاية للموقف السعودي والعُماني في أحداث شرقي اليمن، يُعد أمراً صعباً. لكن يمكن أن نحدد السيناريوهات بناء على المعطيات السابقة والتي قد يتخذها الصراع في شرق اليمن خلال السنوات القادمة، مع تقييم درجة احتمالية كل سيناريو وتحديد المخاطر الجوهرية المرتبطة به.

 

السيناريو الأول: التقسيم الوظيفي والاحتواء

يفترض هذا السيناريو نجاح المجلس الانتقالي الجنوبي في تثبيت أركان حكمه على كامل الجغرافيا الجنوبية، مستفيداً من الدعم الإماراتي المستمر والسيطرة الكاملة على الموارد الاقتصادية في حضرموت والمنافذ السيادية في المهرة، وفي هذا السياق، سيتمكن الانتقالي من تحويل قوته العسكرية إلى نفوذ مؤسسي، فارضاً معادلة "الأمن مقابل الموارد" على القوى المحلية والإقليمية، حيث سيقوم بتأمين تدفق النفط وضبط الأمن في مقابل الحصول على عائدات مالية مباشرة تمكنه من دفع الرواتب وتشغيل الخدمات، مما يخلق شرعية "إنجاز" بديلة لشرعية "الدولة" المتآكلة.

على الصعيد الإقليمي، ستجد المملكة العربية السعودية والمجتمع الدولي أنفسهم مضطرين للتعامل ببراغماتية مع هذا الواقع الجديد، وقد تتوصل السعودية والإمارات (ومعهما الانتقالي) إلى تسوية براغماتية تعترف بالواقع الجديد، فمع عجز الحكومة الشرعية عن استعادة المبادرة، ستلجأ الرياض إلى تفاهمات أمنية مباشرة مع القيادة الجنوبية الجديدة لضمان أمن حدودها ومنع التهريب، وقد يتطور ذلك إلى دمج قوات "درع الوطن" ضمن هيكل دفاعي مشترك، أو تحتفظ السعودية (عبر درع الوطن) بالسيطرة الحصرية على المنافذ الحدودية (الوديعة) ومنطقة العبر كمنطقة عازلة، وسيؤدي هذا المسار إلى تجميد الصراع العسكري الكبير، وتحوله إلى نزاع سياسي بارد، حيث يتم التعامل مع الجنوب ككيان "شبه دولة" يتمتع بحكم ذاتي واسع أو استقلال غير معلن، بينما يظل الشمال تحت حكم الحوثيين، مما يرسخ حالة الانقسام كحل نهائي للأزمة اليمنية بحكم الأمر الواقع.

 

السيناريو الثاني: "البلقنة" وحرب الاستنزاف بالوكالة

يستند هذا السيناريو إلى فرضية فشل المجلس الانتقالي في إدارة التنوع الاجتماعي والقبلي المعقد في شرق اليمن "اليمن الثالث"، حيث تتحول المخاوف الحضرمية والمهرية من "هيمنة المثلث" (الضالع ويافع/لحج) إلى مقاومة مسلحة نشطة، وفي هذه الحالة، لن تقف القوى الإقليمية المتضررة، وتحديداً سلطنة عمان، مكتوفة الأيدي أمام التهديد الوجودي على حدودها، بل قد تضطر لدعم ورقة القبائل المهرية والحضرمية الرافضة للوجود الجديد، مما يحول المنطقة من ساحة سيطرة إلى ساحة استنزاف دموية عبر تكتيكات حرب العصابات والكمائن، وهذا سيمنع الانتقالي من الاستفادة من الثروات النفطية أو استقرار حكمه.

ستؤدي هذه الديناميكية إلى تفتيت الجنوب نفسه، فبدلاً من دولة جنوبية موحدة، سيتحول المشهد إلى "كانتونات" متناحرة يسيطر عليها أمراء حرب محليون وقادة ميليشيات مناطقية، حيث يسيطر الانتقالي على المدن الرئيسية والسواحل، بينما تسيطر القبائل المسلحة على الهضاب والوديان والمناطق الحدودية.

 هذا الفراغ الأمني والفوضى المستدامة سيخلق بيئة مثالية لعودة نشاط تنظيم القاعدة في جزيرة العرب، وازدهار شبكات التهريب العابرة للحدود، مما يحول شرق اليمن إلى "ثقب أسود" أمني يهدد الإقليم بأكمله، ويعطل أي فرص للتنمية الاقتصادية أو الاستقرار السياسي لسنوات طويلة.

 

السيناريو الثالث: الانهيار الشامل واختراق "الحوثي"

ينطلق هذا السيناريو القاتم من فرضية أن الصراع البيني الشرس داخل المعسكر المناهض للحوثيين سيؤدي إلى انكشاف استراتيجي خطير في الجبهات الشمالية، فمع انشغال وحدات النخبة والعمالقة ودرع الوطن في صراع النفوذ والسيطرة في شبوة وحضرموت والمهرة، وتفكك المنطقة العسكرية الأولى التي كانت تشكل خط الدفاع الخلفي لمأرب، سيجد الحوثيون فرصة ذهبية لا تتكرر لتوجيه ضربة قاضية.

 سيستغل الحوثيون سردية "حماية السيادة الوطنية من التقسيم" لشن هجوم كاسح، إما باتجاه مأرب التي باتت شبه محاصرة ومعزولة، أو عبر اختراق مناطق شبوة وحضرموت بالتحالف مع قبائل ناقمة على حكم الانتقالي.

تحقق هذا السيناريو يعني انهيار "الشرعية" اليمنية بشكل نهائي وكامل، حيث سيفقد التحالف ورقة الأرض والجيش، وسيصبح الحوثيون القوة المهيمنة على معظم الخارطة اليمنية ومواردها، وهذا الوضع سيضع دول الخليج، وتحديداً السعودية، أمام خيارات صعبة للغاية: إما القبول بهيمنة حوثية (إيرانية) كاملة على اليمن، أو الاضطرار للتدخل العسكري المباشر والواسع النطاق في حرب إقليمية مفتوحة ومكلفة لاستعادة التوازن المفقود، مما يعيد المنطقة إلى مربع الصراع العسكري الأول ولكن بظروف أسوأ بكثير مما كانت عليه في بداية عاصفة الحزم.

 

السيناريو الرابع: "الاحتواء القسري" وترسيخ الأقلمة

يفترض هذا السيناريو نجاح المملكة العربية السعودية في تفعيل أوراق ضغطها الحاسمة لإجبار المجلس الانتقالي الجنوبي على التراجع التكتيكي، حيث يتم سحب القوات القادمة من "المثلث" وإعادتها إلى ثكناتها في عدن والضالع، ليحل محلها انتشار واسع ومكثف لقوات "درع الوطن" المدعومة سعودياً.

 في هذا الترتيب، تتسلم هذه القوات مهام المنطقة العسكرية الأولى وتؤمن حقول النفط والمنافذ الحدودية، مما يحقق مطلباً جنوبياً قديماً بإخراج القوات "الشمالية"، ولكنه يضع المنطقة فعلياً تحت الاهتمام السعودي المباشر بدلاً من سيطرة الانتقالي، لتعود عجلة الإنتاج وتدفق الموارد إلى وضعها السابق تحت إشراف الحكومة الشرعية أو لجان مشتركة، مقابل منح المجلس الانتقالي "جائزة ترضية" سياسية تتمثل في تمثيل وازن وحقائب سيادية في مفاوضات الحل النهائي الشامل.

سيؤدي هذا التراجع إلى تآكل حاد في الشعبية الجارفة للمجلس الانتقالي وحاضنته الاجتماعية، حيث سيظهر أمام أنصاره بمظهر العاجز عن حماية مكتسباته العسكرية أو الذي يساوم على "الهدف الاستراتيجي" (استعادة الدولة) مقابل مكاسب سياسية آنية في حكومة محاصصة.

هذا الانكسار المعنوي سيفقد الانتقالي زخم "اللحظة الثورية" التي بنى عليها شرعيته، وسيجعل من المستحيل عليه تكرار مغامرة السيطرة العسكرية مرة أخرى في المستقبل القريب، خاصة مع فقدانه لعنصر المباغتة واحتراق أوراقه داخل النسيج الحضرمي والمهري الذي سيعتبر هذا الانسحاب هزيمة لمشروع "الضم والإلحاق".

على المدى البعيد، يؤسس هذا السيناريو لواقع سياسي جديد ينهي عملياً مشروع "الدولة الجنوبية المركزية" الموحدة من باب المندب إلى المهرة. إذ ستستعيد القبائل الحضرمية والمهرية ثقتها بنفسها، مدعومة بتواجد "درع الوطن" (الذي يضم عناصر محلية)، مما يرسخ قناعة راسخة لدى النخب والشارع في الشرق بأن مستقبلهم يكمن في "إقليم حضرموت" المستقل ضمن دولة اتحادية، بعيداً عن هيمنة المركز سواء كان في صنعاء أو عدن.

وبذلك، يتم تثبيت خيار "الأقاليم" كأمر واقع، وتتحول حضرموت والمهرة إلى كتلة سياسية وجغرافية صلبة عصية على الابتلاع، مما يجبر جميع الأطراف على إعادة رسم خرائط الحل السياسي وفقاً لهذه الحقيقة الفيدرالية الجديدة.

 

السيناريو الخامس: "التدويل المنظم" وتسوية الإقليمين

ينبثق هذا السيناريو من قلق المجتمع الدولي (الولايات المتحدة، بريطانيا، والاتحاد الأوروبي) من خروج الوضع في شرق اليمن عن السيطرة، وتهديد الملاحة الدولية في المحيط الهندي [23]وبحر العرب، أو عودة نشاط الجماعات الإرهابية، تحت وطأة هذا الخطر، تتدخل القوى الكبرى بثقلها لفرض "تسوية سياسية شاملة" تتجاوز المرجعيات القديمة، وتعترف بالأمر الواقع الجديد، بموجب هذه التسوية، يتم الاعتراف رسمياً بالمجلس الانتقالي الجنوبي كممثل شرعي للجنوب في مفاوضات الحل النهائي، وتُعاد صياغة شكل الدولة إلى نظام فيدرالي من إقليمين (شمال وجنوب) بحدود عام 1990، مع منح الجنوب حق تقرير المصير عبر استفتاء يُجرى بعد مرحلة انتقالية محددة، مما ينزع فتيل الصراع العسكري ويحوله إلى مسار سياسي وقانوني تحت رعاية أممية.

فيما يخص العقدة الأمنية في الشرق "اليمن الثالث" (حضرموت والمهرة)، يتم وضع ترتيبات أمنية استثنائية بضمانات دولية وإقليمية صارمة، فتصبح حماية الحدود والممرات المائية والمنشآت النفطية في هذا الإقليم مسؤولية مشتركة تشرف عليها لجنة عسكرية تضم (السعودية، عمان، ممثلين عن الإقليمين، ومراقبين دوليين). تهدف هذه الآلية إلى تقديم تطمينات استراتيجية للرياض ومسقط بأن هذه المناطق لن تتحول إلى مصدر تهديد أو منصة لنفوذ قوى معادية، وتضمن تدفق الطاقة والملاحة بعيداً عن التجاذبات السياسية بين عدن وصنعاء، مما يحول الشرق اليمني عملياً إلى "منطقة منزوعة الصراع" تحت المظلة الدولية.

يؤدي هذا المسار إلى تجميد الحرب بشكل نهائي، حيث يحصل المجلس الانتقالي على الاعتراف السياسي وهيكل الدولة الذي يطمح إليه، بينما يحافظ الحوثيون على سلطتهم في الشمال، وتحصل دول الجوار على أمن حدودها. ومع ذلك، فإن هذا السيناريو يرسخ الانقسام اليمني بشكل دائم، ويضع السيادة اليمنية (خاصة في الجنوب والشرق) تحت "الانتداب الدولي المقنع"، حيث يصبح القرار الأمني والاقتصادي الاستراتيجي مرهوناً بالتوافقات الدولية والإقليمية أكثر منه بالإرادة المحلية، مما يخلق استقراراً مفروضاً من الخارج ولكنه قد يفتقر إلى المتانة الداخلية على المدى الطويل.

 

خـاتـمـة: نهاية "الوضع الراهن" وكلفة الانتظار

إن أحداث الأيام العشرة الأولى من ديسمبر/كانون الأول 2025 في شرق اليمن ليست مجرد فصل جديد في الحرب الأهلية اليمنية، بل هي لحظة "إعادة رسم لخرائط النفوذ" في شبه الجزيرة العربية قد تمتد لعقود قادمة، فلقد سقطت الأقنعة والشعارات، وبات الصراع صريحاً على "الجغرافيا والموارد"، متجاوزاً خطابات جمع المتناقضات "لاستعادة الدولة" التي فقدت معناها على الأرض.

إن الخطورة الاستراتيجية لا تكمن فقط في هوية الطرف المسيطر، بل في الفراغ الذي يخلقه انهيار مؤسسات "الشرعية" وتآكل منظومة الردع التقليدية، إن ترك هذا التحول الدراماتيكي ليتفاعل ذاتياً دون تدخل هندسي حاسم وسريع من قبل الرياض ومسقط ودول مجلس التعاون الخليجي، وبالتنسيق مع الفاعلين الدوليين، لن يؤدي إلا إلى تعظيم مكاسب الحوثيين وتنظيم القاعدة، وتحويل الحدود الجنوبية والشرقية للجزيرة العربية من "عمق استراتيجي" آمن إلى "خط تماس" ملتهب.

وعليه، فإن صانع القرار الخليجي اليوم يقف أمام لحظة تاريخية فارقة لا تحتمل التردد؛ فالمفاضلة لم تعد بين "السيئ والأحسن"، بل بين "السيئ والكارثي". إن كلفة المبادرة الآن لفرض واقع يرسخ وجود الدولة اليمنية "الموحدة" ومشروع "الأقاليم" ستكون، مهما عظمت، أقل بكثير من الفاتورة الباهظة التي ستدفعها المنطقة في حال تُرِك "الزلزال" ليرسم ارتداداته العشوائية على أمن واستقرار الإقليم لعقود قادمة، الوقت لم يعد عاملاً محايداً، بل أصبح المتغير الأخطر في المعادلة.

 

 


مراجع:

[1] دراسة مركز أبعاد حول " حضرموت..  دوافع وتداعيات التصعيد العسكري بين الانتقالي" والقبائل، على الرابط

https://abaadstudies.org/policy-analysis/topic/60176

[2] دراسة مركز أبعاد حول " حرب الحلفاء في شبوة بين حلم الانفصال وأطماع الغاز على الرابط

https://abaadstudies.org/strategies/topic/59906

[3] دراسة جيبولتك لمركز أبعاد بعنوان "سقطرى اليمنية.. تحت الاحتلال الإماراتي"

 على الرابط https://abaadstudies.org/strategies/topic/59768

 

[4] Changes in the equations in eastern Yemen; Al-Mahra fell into the hands of UAE-backed forces without a conflict | AVA, ، https://www.avapress.com/en/news/339300/changes-in-the-equations-eastern-yemen-al-mahra-fell-into-hands-of-uae-backed-forces-without-a-conflict

[5] Bypassing Hormuz: Saudi Arabia's pipeline push in Yemen's Al-Mahra - The Cradle, ، https://thecradle.co/articles/bypassing-hormuz-saudi-arabias-pipeline-push-in-yemens-al-mahra

[6] دراسة مركز أبعاد " التحولات السياسية في جنوب اليمن.. من حلم الوحدة إلى واقع التشظي" على الرابط

https://abaadstudies.org/strategies/topic/59837

 

[7] UAE-Backed STC Captures Major Hadramout And Al-Mahra Cities And Oilfields, ، https://www.eurasiareview.com/05122025-uae-backed-stc-captures-major-hadramout-and-al-mahra-cities-and-oilfields/

[8] دراسة لمركز أبعاد للدراسات والبحوث، قوات "درع الوطن".. لاعب جديد في مسرح متحرك https://abaadstudies.org/policy-analysis/topic/60114

 

[9] Abaad Studies and Research Center ,Nation's Shield Forces: New Player in Dynamic Theatre

https://abaadstudies.org/en/policy-analysis/topic/60114

[10] توصيف دراسة مركز أبعاد للدراسات والبحوث للحدود " حدود جهنم" في حال فقدان الشرعية السيطرة على الحدود الشمالية الشرقية، ضمن دراسة " توحش الإرهاب في اليمن" https://abaadstudies.org/uploads/topics/pdf/files/2020-02-14-52801.pdf

 

[11]  Saudi Arabia, Oman compete for control in Yemen's Mahra - Anadolu Ajansı  https://www.aa.com.tr/en/middle-east/saudi-arabia-oman-compete-for-control-in-yemen-s-mahra/2098447

[12] Mahra: The Eye of a Geopolitical Storm Peter Mills - SAIS Europe Journal of Global Affairs, ، https://www.saisjournal.eu/article/38-Mahra-The-Eye-of-a-Geopolitical-Storm.cfm

[13] سبق أن دعا الحريزي للتعبئة العامة في واحدة من الحالات مع توتر الوضع في المحافظة مع قوات درع الوطن السعودية،
The Struggle Over Mahra | Carnegie Endowment for International Peace, https://carnegieendowment.org/middle-east/diwan/2025/03/the-struggle-over-mahra?lang=en

[14] دراسة أبعاد حول نفوذ الإمارات في اليمن: تنافس سعودي إماراتي ودور أبوظبي انحرف عن أهداف عاصفة الحزم إلى إسقاط الشرعية https://abaadstudies.org/pdf-38.pdf

[15] الاتفاق الإبراهيمي بين الإمارات وإسرائيل هو اتفاق تطبيع كامل، تم الإعلان عنه في 13 أغسطس 2020 ووقّع رسمياً في 15 سبتمبر 2020، ويراد أن يتحول إلى مشروع هيمنة استراتيجية في المنطقة لصالح محور إسرائيل.

[16] عيدروس الزبيدي, في مقابلة صحفية مع قناة روسيا اليوم : عندما نحصل على استقلال وسيادة، فسنكون لنا الحق في إقامة علاقات مع إسرائيل — هذا هو حقنا السيادي.”

https://www.facebook.com/Aidrooszubidi/videos/أجرت-قناة-روسيا-اليوم-اليوم-الثلاثاء-لقاءً-مطولاً-مع-سيادة-الرئيس-القائد-عيدروس-/231588515229881/

 

[17] كان الحوثيون بالفعل قد رفعوا من مواجهة الاحتلال في كلماتهم في ذكرى 30 نوفمبر (قبل يوم من سيطرة المجلس الانتقالي على وادي حضرموت) وقام زعيم الجماعة بإصدار بيان (وهي طريقة نادرة في تقديم كلمة للناس في ذكرى وطنية إذ عادة ما يظهر في خطاب متلفز ولا يقدم خطابات في المناسبات الوطنية).

[19] مقابلة عمرو بن حبريش مع بي بي سي 1/12/2025 https://youtu.be/4b1ELJoyOA0

[20] مصطلح "بلقنة" يشير في العلوم السياسية إلى عملية تفتيت أو تقسيم دولة أو منطقة أكبر إلى دويلات أو كيانات أصغر ومتناحرة، غالبًا على أسس عرقية أو دينية أو جغرافية. ويتم هذا التقسيم عادةً بتدخل قوى داخلية وخارجية. أصل المصطلح يعود إلى منطقة البلقان في جنوب شرق أوروبا، والتي كانت مسرحًا للعديد من النزاعات والصراعات والانقسامات بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية، مما أدى إلى ظهور دول قومية صغيرة ومتناحرة.

[21] صراع على النفوذ وحرب بالوكالة في اليمن https://abaadstudies.org/strategies/topic/59860

[22] الريال اليمني ينتعش والمجلس الانتقالي يناور.. هل تنهار مصالح حيتان النفط والكهرباء؟ https://www.yemenmonitor.com/Details/ArtMID/908/ArticleID/147275

[23] دراسة مركز أبعاد " سقطرى اليمنية.. حرب النفوذ في المحيط الهندي" على الرابط

https://abaadstudies.org/news/topic/59846

 

نشر :